الثلاثاء، 5 أغسطس 2014

الإنسان كائن براغماتي بالفطرة : " البراغماتية الخفية "

الإنسان كائن براغماتي بالفطرة :
" البراغماتية الخفية "

منذ أن خلق الحق سبحانه الوجود و الكائنات الحية تسعى لما يضمن بقاءها و و يحول دون هلاكها ، و بالخصوص الكائن البشري ؛ هذا الكائن الذي سوف نتطرق إليه في موضوعنا هذا كونه يتميز عن باقي الكائنات الحية بميزة منحها إياه الله تعالى ، و كانت عاملا أهلته كي يكون براغماتيا أكثر من باقي الكائنات الأخرى .
 أولا ما أقصده بالبراغماتية في موضوعي هذا ؛ ليس هو الأخذ دون العطاء ؛ بمعنى أن يستغل أحد الآخر و ينشئ  معه علاقة على أساس المنفعة التي لولاها لتم وضع حد لهذه العلاقة ، فهذه أيضا جزءا من موضوعي لكنها ليست ما أعنيه بكلامي هذا .
فلو تأملنا سلوكيات الإنسان و معاملاته و تحركاته و تواصله مع الآخر أو بالأحرى لو تأملنا كل نشاطاته ليومية ، فسنلاحظ أن الإنسان لا يتحرك قيد أنملة دون منفعة شخصية ، حتى أحيانا دون أن يشعر بذلك ، فالبراغماتية لدى الإنسان درجات منها الدرجة الدنيا ؛ و التي لا يشعر بها المرء فهو في حينها يكون براغماتيا دون شعوره بذلك ، و الدرجة الثانية ؛ و هي الدرجة المتوسطة و المعتدلة ، إذ أن المرء يسعى لتحقيق أمور بإرادته لكن يعطي كي يأخذ و هنا لا ينتضر أن يُتفضل عليه ، و لو تفضل عليه دون طلبه ، أما الدرجة الثالثة و الأخيرة فهم الفئة التي تأخذ و لا تعطي ، و كما أسلفنا فإنها تُنشئ علاقات نفعية ليس إلا ؛ فهي تحاول استغلال سذاجة البعض و أحيانا ثقة البعض حتى تُكوِّن منه جسرا للعبور إلى منافعها الشخصية ،  و هنا نكون قد حددنا الدرجات الثلاث التي قد يكون عليها الكائن البشري . بينما الكائنات الأخرى لا تتميز سوى بدرجتين من البراغماتية و هي الأولى و الثانية ، أما الثالثة فالأنسان ينفرد بها عن غيره ، فهاته الكائنات تحكمها الغريزة و لا شيء يعلوا فوق الغريزة فهي التي تحكم تصرفاتها ، و لكن هناك من يدنوا هاذه الغريزة و هي أمور خفية قد لا نلاحظ أنها براغماتية ، أو كما صنفناها سلفا في الدرجة الأولى من البراغماتية و هي ممارسة البراغماتية عن طريق اللاشعور .
 لكن الكائن البشري إضافة إلى الدرجة الأولى التي يمارس فيها البراغماتية بطريقة لاشعورية ، و الدرجة الثانية التي يعي المرء أنه يمارس فعلا براغماتيا لكنه يكون عن طريق الأخد و العطاء ، إضافة إلى أن هذه الدرجة تشمل تلبية الإنسان لغريزته التي يشترك مع الكائنات الأخرى فيها ، لكن الدرجة الثالثة ينفرد بها الجنس البشري لأنه يمتاز بنعمة مقدسة و عظيمة و هي ملكة العقل ، نعم ؛ العقل هو من يؤهل المرء للدرجة الثالثة التي فيها المكر و الخداع و النفاق و كل الاخلاق الذميمة التي يجيد العقل نسجها و تقديمها على طبق ذهبي للآخر كي يُوقع به ، نعم كي يأخذ منه دون أن يعطي ، إنها الدرجة الثالثة من البراغماتية في الإنسان ، الدرجة الدميمة ، الدرجة التي تجرح المشاعر و تحتال على قلوب طيبة ؛ أو على الأقل كانت في لحظتها طيبة تخلوا أو تكاد من الظلم و الخيانة و رذائل الأخلاق ، و نفوس في نشأتها اعتادت الكرم فما أخذ اللئام يفقرهم و ما يُفقدهم قيمة الكرم ، فالدرجة الثالثة يمتاز بها الكان البشري عن باقي الكائنات الحية لكن حتى الكائن البشري ليس جميعه يمتاز بهذه الخصلة القبيحة ، كما لسنا كلنا معصومين من الوقوع فيها في إحدى المرات ، لكن الفرق هو أن البعض أصبحت من مميزات شخصيته هذه الدرجة الثالثة من البراغماتية ، عكس البعض الآخر الذي من الممكن أن ظروفا ما حتمت عليه سلوك ذلك المنحى .
أعتقد أن الجميع يفهم ما معنى البراغماتية في درجتها الثالثة و ما أقصده بها ، و حتى الدرجة الثانية التي فيها يقضي الإنسان حوائج تذر النفع عليه لكنه يعطي كمقابل لنيلها ، كالتلميذ المجتهد الذي يواضب طيلة السنة على الإهتمام بالدراسة و القيام بالواجبات و حسن السلوك و ... فهنا يعطي ليأخذ و أخذه براغماتي نفعي و هو النجاح فالنجاح منفعة يسعى إليها ؛ لكنه قابلها بالعطاء كي ينالها ، و العامل المجد الذي يعمل جاهدا كي ينال أجرة عمله ، و الفلاح المجد الذي يجتهد في الإعتناء بأمور فلاحة أرضه كي يسعد بجني تمارها ، و هذا على سبيل المثال لا الحصر .
 و هناك أمثلة رغم أنها لا تستوفي شرط تصنيفها ضمن الدرجة الثانية من البراغماتية ألا و هي العطاء مقابل الأخذ لكنها تصنف في هذه الدرجة ؛ و السبب أن المرء لم يحتال كي يصل إليها و لم ينافق و بالتالي فالآخر جاء عطاءه تلقائيا دون طلب الإنسان ؛ بمعنى تفضل عليه و أهداه أمرا ما ، مثل رجل كان يحتفظ لنفسه بكعكة و هو يركب القطار فلما التفت للذي بجانبه أراد أن يشاطره تلك الحلوى تلقائيا دون أن يطلب جاره في القطار منه ذلك ، و هذا مثال لعطاء دون أخذ ، و أخذ دون عطاء ، فكلاهما يستحق التصنيف في الدرجة الثانية ، فراكب القطار نال شيئا لم يطلبه إذ أن من يركب بجانبه تفضل عليه من تلقاء نفسه .
 أما الدرجة الأولى فهي التي لفتت إنتباهي في نشاطات الكائن البشري خصوصا ، و هي ما دفعني لكتابة موضوعي هذا ، فنحن نمارس في حياتنا كلها منذ نشأتنا و حتى يوم نلقى فيه المولى تعالى نشاطات براغماتية ، قد لا نلمسها لأنها حالات لا شعورية ، و أكثر من ذلك فبقاء حياتنا مرهونة بوجود معظمها ، إننا لا نفرز أشياء عن فراغ ، بل لأننا نتصور ما نجنيه منها من منافع ، هاته المنافع التي قد تأتي عكس التوقعات ، و كل ما توصلنا له يكون منطلقا لسلسلة من المنافع نود تحقيقها و نرتجي و الوصول لها ، و هكذا ستمر الحياة ، فنحن نسعى لما يحقق لنا السعادة و الراحة النفسية ؛ و لذلك فمساعينا إليها يكون عبر مجموعة من الطفرات ، و الإنفعالات ، و السلوكات التي تكون بمثابة الدرج الموصل لمسعانا ؛ رغم أننا أحيانا لا نصل لكن طموحاتنا في الحياة كثيرة جدا جدا ، فالفشل لا يعني عدم تكرار المحاولة مما يستدعي المرور مرة أخرى بمراحل تتسلسل كالدرج الموصل للمنتهى و المقصد ، كما أن الفشل في تحقيق رغبة ما لا يعني أنها الرغبة الوحيدة التي لا بعدها و لا قبلها رغبة ، بل إن طموحات المرء في الحياة كثيرة غاية الكثرة ، و المراحل التي نمر من خلالها كي نحقق هاته الغايات هي البراغماتية الخفية ، و الغاية التي نود الوصول لها هي البراغماتية الظاهرة ، و حتى تتضح الصورة و يزول الغموض عن المعنى ، فالمثال خير ما نقدمه بهذا الصدد :
 فلنضرب لذلك مثالا لعامل إنطلق من منزله صوب مقر العمل ، فلنحدد هنا الراغماتية الظاهرة و الخفية ، فالظاهرة هي الغاية التي يرمي إليها ؛ و تتجلى في رغبته في الوصول للعمل حتى يستفيد من الأجرة ، أما الخفية فتلك الخطوات التي أوصلته إلى مقر العمل فلو كانت مائة خطوة كافية لإيصاله و اكتفى بتسعين خطوة فلن يصل ؛ و بالتالي لن يحقق مبتغاه الذي خرج من أجله من البيت و هو الوصول لمقر العمل ، و بالتالي فكل خطوة هنا فهي حركة براغماتية لولاها لما تحققت منفعة ، و هنا نلمس بعض أوجه البراغماتية الخفية و التي يمارسها الكائن البشري في حياته كلها ، و في نفس المثال كذلك لو أن العامل خرج متأخرا ، ففي المعتاذ تلزمه دقيقتان كي يصل لعمله ، لكن بتأخره أسرع خطواته و استغرق نصف المدة ؛ و لولا ذلك لتأخر عن العمل و بالتلي سيُطرد ، و مكمن البراغماتية هنا هو السرعة التي منعت تأخره و كانت عاملا مساعدا له ، و كمثال آخر المؤمن المحافظ على عباداته ، و البراغماتية الخفية هنا تتمتل في الطمع في نيل رضى الله سبحانه و الجنة ...
كما نأخذ مثالا للكائنات الحية الأخرى ، لنقف عند أوجه البراغماتية لديها ، و هي على درجتيها ؛ لأننا أسلفنا أنها لا تملك العقل الذي يخول لها السمو للدرجة الثالثة ، سنعطي عن سلوكات بعض الحيوانات مثلا ، و لنمثل البراغماتية لدى قطيع من الأغنام ، فالدرجة الثانية من البراغماتية لديهم و هي التي تحكمها الغريزة ، نلمسها جليا في ما يبرز من سلوكات ، مثلا غريزة الجوع تجعل القطيع يسير نحو هدف نفعي براغماتي و هي الحشائش التي تزيل جوعهم ، و التزاوج فالهدف البراغماتي من ورائه هو تفريغ الرغبة الجنسية و تحقيق اللذة ، أما الدرجة لأولى و التي لا يتم الشعور بممارسة البراغماتية من خلالها و تكون خفية ، فنبقى في نفس المثالين الأخيرين ، فغريزة الجوع تتحقق تلبيتها بالأكل ، و ما بين الشعور بالجوع و تحقيق الرغبة و هي الأكل ؛ هناك سلوكات و انفعالات و حوادث و كلها تذخل في خانة البراغماتية الخفية ، خطوات القطيع نحو المأكل ، و تفاعله مع الوضع ، و كل رفع و خفض ، و حركة هنا أو هناك بها تتم تلبيية الرغبة فتلك براغماتية خفية ، و قس على ذلك التزاوج و كل ما هو مرغوب فيه .
و هكذا تتضح جليا أن حياة الإنسان خصوصا ، و الكائنات الحية عموما ؛ فهي حافلة بالبراغماتية بل أنها تسير وفقا لها طبعا على درجاتها الثلاث ، فالدرجة الثالثة تأخذ منا الحيز الأكبر فيما تليها الثانية ثم الثالثة بالنسبة للإنسان ، و هكذا نستتج أن الإنسان كائن براغماتي بالفطرة .

                                                          
معتز العربي

ليست هناك تعليقات: